فصل: سنة اثنتين وستين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر أسماء من قتل معه:

قال سليمان: لما قتل الحسين ومن معه حملت رؤوسهم إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأساً.
وقتل الحسين، قتله سنان بن أنس النخعي، لعنه الله، وقتل العباس بن علي، وأمه أم البنين بنت حزام، قتله زيد بن داود الجنبي وحكيم بن الطفيل السنسبي. وقتل جعفر بن علي، وأمه أم البنين أيضاً. وقتل عبد الله بن علي، وأمه أم البنين أيضاً. وقتل عثمان بن علي، وأمه أم البنين أيضاً، رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله. وقتل محمد بن علي، وأمه أم ولد، قتله رجل من بني دارم. وقتل أبو بكر بن علي، وأمه ليلى بنت مسعود الدارمية، وقد شك في قتله. وقتل علي بن الحسين بن علي، وأمه ليلى ابنة أبي مرة ابن عروة الثقفي، وأمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب، قتله منقذ بن النعمان العبدي، وقتل عبد الله بن الحسين بن علي، وأمه الرباب ابنة امرىء القيس الكلبي، قتله هانىء بن ثبيت الحضرمي. وقتل أبو بكر ابن أخيه الحسن أيضاً، وأمه أم ولد، قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم. وقتل القاسم بن الحسن أيضاً، قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي. وقتل عون بن أبي جعفر بن أبي طالب، وأمه جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري، قتله عبد الله بن قطبة الطائي. وقتل محمد بن عبد الله بن جعفر، وأمه الخوصاء بنت خصفة بن تيم الله بن ثعلبة، قتله عامر بن نهشل التيمي. وقتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب، وأمه أم بنين ابنة الشقر بن الهضاب، قتله بشر بن الخوط الهمداني. وقتل عبد الرحمن بن عقيل، وأمه أم ولد، قتله عثمان بن خالد الجهني. وقتل عبد الله بن عقل، وأمه أم ولد، رماه عمرو بن صبيح الصيداوي بسهم فقتله. وقتل مسلم بن عقيل بالكوفة، وأمه أم ولد. وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، وأمه رقية ابنة علي بن أبي طالب، قتله عمرو بن صبيح الصيداوي، ويقال قتله مالك بن أسيد الحضرمي. وقتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل، وأمه أم ولد، قتله لقيط بن ياسر الجهني.
واستصغر الحسن بن الحسن بن علي، وأمه خولة بنت منظور بن زبان الفزاري، واستصغر عمور بن الحسن، وأمه أم ولد، فلم يقتلا.
وقتل من الموالي سليمان مولى الحسين، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الحسين أيضاً، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين.
قال ابن عباس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، الليلة التي قتل فيها الحسين وبيده قارورة وهو يجمع فيها دماً. فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى. فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين وقص رؤياه، فوجد قد قتل في ذلك اليوم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى أم سلمة تراباً من تربة الحسين حمله إليه جبرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، لأم سلمة: إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين. فحفظت أم سلمة ذلك التراب في قارورة عندها، فلما قتل الحسين صار التراب دماً، فأعلمت الناس بقتله أيضاً. وهذا يستقيم على قول من يقول أم سلمة توفيت بعد الحسين.
ثم إن ابن زياد قال لعمر بن سعد بعد عوده من قتل الحسين: يا عمر إيتني بالكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين. قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب. قال: لتجيئني به. قال: ضاع. قال: لتجيئني به. قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذاراً إليهن، أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه. فقال عثمان بن زياد، أخو عبيد الله: صدق والله! لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن الحسين لم يقتل! فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد. آخر المقتل.

.ذكر مقتل أبي بلال مرداس حدير الحنظلي:

قد تقدم ذكر سبب خروجه وتوجيه عبيد الله بن زياد العساكر إليه في ألفي رجل فالتقائهم بآسك وهزيمة عسكر ابن زياد، فلما هزمهم أبو بلال وبلغ ذلك ابن زياد ارسل إليه ثلاثة آلاف عليهم عباد بن الأخضر، والأخضر زوج أمه، نسب إليه، وهو عباد بن علقمة بن عباد التميمي، فاتبعه حتى لحقه بتوج فصف له عباد وحمل عليهم أبو بلال فيمن معه، فثبتوا واشتد القتال حتى دخل وقت العصر، فقال أبو بلال: هذا يوم جمعة وهو يوم عظيم وهذا وقت العصر فدعونا حتى نصلي. فأجابهم ابن الأخضر وتحاجزوا، فعجل ابن الأخضر الصلاة، وقيل قطعها، والخوارج يصلون، فشد عليهم هو وأصحابه وهم ما بين قائم وراكع وساجد لم يتغير منهم أحد من حاله، فقتلوا من آخرهم وأخذ رأس أبي بلال.
ورجع عباد إلى البصرة فرصده بها عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة وهو مردف ابناً صغيراً له، فقالوا له: قف حتى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير. قالوا: قد استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه قتله الله! فوثبوا عليه وحكموا به فألقى ابنه فنجا وقتل هو، فاجتمع الناس على الخوارج فقتلوا غير عبيدة.
ولما قتل ابن عباد كان ابن زياد بالكوفة ونائبه بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فكتب إليه يأمره أن يتبع الخوارج، ففعل ذلك وجعل يأخذهم، فإذا شفع في أحدهم ضمنه إلى أن يقدم ابن زياد، ومن لم يكفله أحد حبسه، وأتي بعروة بن أدية فأطلقه وقال: أنا كفيلك. فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس من الخوارج فقتلهم وطلب الكفلاء بمن كفلوا به فمن أتى بخارجي أطلقه وقتل الخارجي، ومن لم يأت بالخارجي قتله، ثم طلب عبيد الله بن أبي بكرة بعروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه. فقال: إذن أقتلك به، فلم يزل يبحث عنه حتى ظفر به وأحضره عند ابن زياد، فقال له ابن زياد: لأمثلن بك. فقال: اختر لنفسك من القصاص ما شئت به، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وصلبه، وقيل: إنه قتل سنة ثمان وخمسين.

.ذكر ولاية سلم بن زياد على خراسان وسجستان:

قيل: في هذه السنة استعمل يزيد سلم بن زياد على خراسان.
وسبب ذلك أن سلماً قدم على يزيد، فقال له يزيد: يا أبا حرب أوليك عمل أخويك عبد الرحمن وعباد. فقال: ما أحب أمير المؤمنين. فولاه خراسان وسجستان، فوجه سلمٌ الحارث بن معاوية الحرثي جد عيسى بن شبيب إلى خراسان، وقدم سلم البصرة فتجهز منها، فوجه أخاه يزيد إلى سجستان، فكتب عبيد الله بن زياد إلى أخيه عباد يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما في بيت المال على عبيدة وفضل فضلٌ فنادى: من أراد سلفاً فليأخذ، فأسلف كل من أتاه، وخرج عباد من سجستان. فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم، وكان بينهما جبل، فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف. وسار عباد على فارس فقدم على يزيد فسأله عن المال، فقال: كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس.
ولما سار سلم إلى خراسان كتب معه يزيد إلى أخي عبيد الله بن زياد ينتخب له ستة آلاف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخر معه عمران بن الفضيل البرجمي والمهلب بن أبي صفرة وعبد الله بن خازم السلمي وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وحنظلة بن عرادة ويحيى بن يعمر العدواني وصلة بن أشيم العدوي وغيرهم، وسار سلم إلى خراسان وعبر النهار غازياً، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خوارزم فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً ويتشاورون في أمورهم، فكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سلم غزا فشتا في بعض مغازيه، فألح عليه المهلب بن أبي صفرة وساله التوجه إلى تلك المدينة، فوجهه في ستة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدابة والمتاع بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بها المهلب عند سلم، وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد.
وغزا سلم سمرقن وعبرت معه النهر امرأته أم محمد ابنة عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفية، وهي أول امرأة من العرف قطع بها النهر، فولدت له ابناً سماه صغدى، واستعارت امرأته من امرأة صاحب الصغد حليها فلم تعده إليها وذهبت به. ووجه جيشاً إلى خجندة فيهم أعشى همدان فهزموا، فقال أعشى:
ليت خيلي يوم الخجندة لم ته ** زم وغودرت في المكر سليبا

تحضر الطير مصرعي وتروح ** ت إلى الله بالدماء خضيبا

.ذكر ولاية يزيد بن زياد وطلحة الطلحات سجستان:

ولما استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان استعمل أخاه يزيد على سجستان، فغدر أهل كابل فنكثوا وأسروا أبا عبيدة بن زياد، فسار إليهم يزيد بن زياد في جيش فاقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم كثير، فممن قتل يزيد بن عبد الله بن أبي مليكة وصلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي زوج معاذة العدوية، فلما بلغ الخبر سلم بن زياد سير طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو طلحة الطلحات، ففدى أبا عبيدة بن زياد بخمسمائة ألف درهم، وسار طلحة من كابل إلى سجستان والياً عليها، فجبى المال وأعطى زواره، ومات بسجستان واستخلف رجلاً من بني يشكر، فأخرجته المضرية ووقعت العصبية فطمع فيهم رتبيل.

.ذكر ولاية الوليد بن عتبة المدينة والحجاز وعزل عمرو بن سعيد:

قيل: وفي هذه السنة عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن الزبير أظهر الخلاف على يزيد وبويع بمكة بعد قتل الحسين، فإنه لما بلغه قتل الحسين قام في الناس فعظم قتله وعاب أهل الكوفة خاصة وأهل العراق عامة، فقال بعد حمد الله والصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن أهل العراق غدرٌ فجرٌ إلا قليلاً، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا الحسين لينصروه ويولوه عليهم، فلما قدم عليهم ثاروا عليه فقالوا: إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب؛ فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير، فإن كان الله لم يطلع على الغيب أحداً أنه مقتول ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله الحسين وأخزى قاتله! لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظٌ وناهٍ عنهم، ولكنه ما قرر نازل، وإذا أراد الله أمراً لم يدفع، أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً؟ لا والله لا نراهم لذلك أهلاً، أما والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامه، كثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقرآن غياً، ولا بالبكاء من خشية الله حداً، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس في حلق الذكر بكلاب الصيد- يعرض بيزيد- {فسوف يلقون غياً} مريم: 59.
فثار إليه أصحابه وقالوا: أظهر بيعتك فإنك لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان يبايع سراً ويظهر أنه عائذ بالبيت. فقال لهم: لا تعجلوا، وعمرو بن سعيد يومئذٍ عامل مكة، وهو أشد شيء على ابن الزبير، وهو مع ذلك يداري ويرفق، فلما استقر عند يزيد ما قد جمع ابن الزبير بمكة من الجموع أعطى الله عهداً ليوثقنه في سلسلة، فبعث إليه سلسلة من فضة مع ابن عطاء الأشعري وسعد وأصحابهما ليأتوه به فيها، وبعث معهم برنس خز ليلبسوه عليها لئلا تظهر للناس.
فاجتاز ابن عطاء بالمدينة وبها مروان بن الحكم فأخبره ما قدم له، فأرسل مروان معه ولدين له أحدهما عبد العزيز وقال: إذا بلغته رسل يزيد فتعرضا له وليتمثل أحدكما بهذا القول، فقال:
فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ** وفيها فعالٌ لامرىءٍ متذلل

أعامر إن القوم ساموك خطةً ** وذلك في الجيران غزلٌ بمغزل

أراك إذا ما كنت للقوم ناصحاً ** يقال له بالدلو أدبر وأقبل

فلما بلغه الرسول الرسالة قال عبد العزيز الأبيات، فقال ابن الزبير: يا بني مروان قد سمعت ما قلتما فأخبرا أباكما:
إني لمن نبعةٍ صمٍ مكاسرها ** إذا تناوحت البكاء والعشر

فلا ألين لغير الحق أسأله ** حتى يلين لضرس الاضغ الحجر

وامتنع ابن الزبير من رسل يزيد، فقال الوليد بن عتبة وناس من بني أمية ليزيد: لو شاء عمرو لأخذ ابن الزبير وسرحه إليك. فعزل عمرو وولي الوليد الحجاز، وأخذ الوليد غلمان عمرو ومواليه فحبسهم، فكلمه عمرو فأبى أن يخليهم، فسار عن المدينة ليلتين وأرسل إلى غلمانه بعدتهم من الإبل، فكسروا الحبس وساروا إليه فلحقوه عند وصوله إلى الشام، فدخل على يزيد وأعلمه ما كان فيه من مكايدة ابن الزبير، فعذره وعلم صدقه.

.ذكر عدة حوادث:

حج بالناس الوليد بن عتبة هذه السنة.
وكان الأمير بالعراق عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سلم بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
وفي هذه السنة مات علقمة بن قيس النخعي صاحب ابن مسعود، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: خمس، وله تسعون سنة. وفيها توفي المنذر بن الجارود العبدي. وجابر بن عتيك الأنصاري، وقيل حر، وكان عمره إحدى وتسعين سنة، وشهد بدراً. وفيها مات حمزة بن عمرو الأسلمي، وعمره إحدى وسبعون سنة، وقيل ثمانون سنة، له صحبة. وفيها توفي خالد بن عرفطة الليثي، وقيل العذري، حليف بني زهرة، وقيل مات سنة ستين، وله صحبة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وستين:

.ذكر وفد أهل المدينة إلى الشام:

لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غرة ابن الزبير فلا يجده إلا محترزاً ممتنعاً، وثار نجدة بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين، وثار ابن الزبير بالحجاز، وكان الوليد يفيض من المعرف ويفيض معه سائر الناس، وابن الزبير واقف وأصحابه، ونجدة واقفٌ في أصحابه، ثم يفيض ابن الزبير بأصحابه ونجدة بأصحابه، وكان نجدة يلقى ابن الزبير فيكثر، حتى ظن أكثر الناس أنه سيبايعه، ثم إن ابن الزبير عمل بالمكر في أمر الوليد، فكتب إلى يزيد: إنك بعثت إلينا رجلاً أخرق لا يتجه لرشد ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت رجلاً سهل الخلق رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرق.
فعزل يزيد الوليد وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وهو فتى غرٌّ حدث لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن، لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله، فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة، غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، والمنذر بن الزبير، ورجالاً كثيراً من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فأعطى عبد الله بن حنظلة، وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً، مائة ألف درهم، وكان معه ثمانية بنين، فأعطى كل ولد عشرة آلاف.
فلما رجعوا قدموا المدينة كلهم إلا المنذر بن الزبير، فإنه قدم العراق على ابن زياد، وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف، فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه. وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسمر عنده الحراب، وهم اللصوص، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه.
وقام عبد الله بن حنظلة الغسيل فقال: جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلا لأتقوى به. فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولوه عليهم.
وأما المنذر بن الزبير فإنه قدم على ابن زياد فأكرمه وأحسن إليه، وكان صديق زياد، فأتاه كتاب يزيد حيث بلغه أمر المدينة يأمره بحبس المنذر، فكره ذلك لأنه ضيفه وصديق أبيه، فدعاه وأخبره بالكتاب، فقال له: إذا اجتمع الناس عندي فقم وقل ائذن لي لأنصرف إلى بلادي، فإذا قلت بل تقم عندي فلك الكرامة والمواساة، فقل إن لي ضيعةً وشغلاً ولا أجد بداً لي من الانصراف، فإني آذن لك في الانصراف فتلحق بأهلك.
فلما اجتمع الناس على ابن زياد فعل المنذر ذلك فأذن له في الانصراف، فقدم المدينة، فكان ممن يحرض الناس على يزيد، وقال: إنه قد أجازني بمائة ألف ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة! وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشد. فبعث يزيد النعمان بن بشير الأنصاري وقال له: إن عدد الناس بالمدينة قومك، فإنهم ما يمنعهم شيء عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترىء الناس على خلافي.
فأقبل النعمان فأتى قومه فأمرهم بلزوم الطاعة وخوفهم الفتنة، قال لهم: إنكم لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال عبد الله بن مطيع العدوي: يا نعمان ما يحملك على فساد ما أصلح الله من أمرنا وتفريق جماعتنا؟ فقال النعمان: والله لكأني بك لو نزل بك الجموع وقامت لك على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيف ودارت رحا الموت بين الفريقين قد ركبت بغلتك إلى مكة وخلفت هؤلاء المساكين، يعني الأنصار، يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم. فعصاه الناس وانصرف، وكان الأمر كما قال.

.ذكر ولاية عقبة بن نافع إفريقية ثانيةً وما افتتحه فيها وقتله:

قد ذكرنا عزل عقبة عن إفريقية وعوده إلى الشام، فلما وصل إلى معاوية وعده بإعادته إلى إفريقية، وتوفي معاوية وعقبة بالشام، فاستعمله يزيد على إفريقية في هذه السنة وأرسله إليها، فوصل إلى القيروان مجداً، وقبض أبا المهاجر أميرها وأوثقه في الحديد وترك بالقيروان جنداً مع الذراري والأموال واستخلف بها زهير بن قيس البلوي، وأحضر أولاده، فقال له: إني قد بعت نفسي من الله، عز وجل، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. وأوصى بما يفعل بعده.
ثم سار في عسكر عظيم حتى دخل مدينة باغاية، وقد اجتمع بها خلق كثير من الروم، فقاتلوه قتالاً شديداً وانهزموا عنه وقتل فيهم قتلاً ذريعاً وغنم منهم غنائم كثيرة، ودخل المنهزمون المدينة وحاصرهم عقبة. ثم كره المقام عليهم فسار إلى بلاد الزاب، وهي بلاد واسعة فيها عدة مدن وقرى كثيرة، فقصد مدينتها العظمى واسمها أربة، فامتنع بها من هناك من الروم والنصارى، وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون ومن بالمدينة من النصارى عدة دفعات ثم انهزم النصارى وقتل كثير من فرسانهم، ورحل إلى تاهرت.
فلما بلغ الروم خبره استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم، فاجتمعوا في جمع كثير والتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، واشتد الأمر على المسلمين لكثرة العدو، ثم إن الله تعالى نصرهم فانهزمت الروم والبربر وأخذهم السيف وكثر فيهم القتل وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم.
ثم سار حتى نزل على طنجة فلقيه بطريق من الروم اسمه يليان فأهدى له هدية حسنة ونزل على حكمه، ثم سأله عن الأندلس فعظم الأمر عليه، فسأله عن البربر، فقال: هم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله، وهم بالسوس الأدنى، وهم كفار لم يدخلوا في النصرانية ولهم بأس شديد.
فسار عقبة إليهم نحو السوس الأدنى، وهي مغرب طنجة، فانتهى إلى أوائل البربر، فلقوه في جمع كثير، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وبعث خيله في كل مكان هربوا إليه، وسار هو حتى وصل إلى السوس الأقصى، وقد اجتمع له البربر في عالم لا يحصى، فلقيهم وقاتلهم وهزمهم، وقتل المسلمون فيهم حتى ملوا وغنموا منهم وسبوا سبياً كثيراً، وسار حتى بلغ ماليان ورأى البحر المحيط، فقال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك.
ثم عاد فنفر الروم والبربر عن طريقه خوفاً منه، واجتاز بمكان يعرف اليوم بماء الفرس فنزله، ولم يكن به ماءٌ، فلحق الناس عطشٌ كثير أشرفوا منه على الهلاك، فصلى عقبة ركعتين ودعا فبحث فرس له الأرض بيديه فكشف له عن صفاة فانفجر الماء، فنادى عقبة في الناس فحفروا أحساء كثيرة وشربوا، فسمي ماء الفرس.
فلما وصل إلى مدينة طبنة، وبينها وبين القيروان ثمانية أيام، أمر أصحابه أن يتقدموا فوجاً فوجاً ثقة منه بما نال من العدو، وأنه لم يبق أحداً يخشاه، وسار إلى تهوذة لينظر إليها في نفر يسير، فلما رآه الروم في قلة طمعوا فيه فأغلقوا باب الحصن وشتموه وقاتلوه وهو يدعوه إلى الإسلام فلم يقبلوا منه.

.ذكر خروج كسيلة بن كمرم البربري على عقبة:

هذا كسيلة بن كمرم البربري كان قد أسلم لما ولي أبو المهاجر إفريقية وحسن إسلامه، وهو من أكابر البربر وأبعدهم صوتاً، وصحب أبا المهاجر، فلما ولي عقبة عرفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه، فلم يقبل واستخف به، وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلاخين، فقال كسيلة: هؤلاء فتياني وغلماني يكفونني المؤونة. فشتمه وأمره بسلخها، ففعل، فقبح أبو المهاجر هذا عند عقبة، فلم يرجع، فقال له: أوثق الرجل فإني أخاف عليك منه! فتهاون به عقبة. فأضمر كسيلة الغدر، فلما كان الآن ورأى الروم قلة من مع عقبة أرسلوا إلى كسيلة وأعلموه حاله، وكان في عسكر عقبة مضمراً للغدر، وقد أعلم الروم ذلك وأطمعهم. فلما راسلوه أظهر ما كان يضمره وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة، فقال أبو المهاجر: عاجله قبل أن يقوى جمعه. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة. فزحف عقبة إلى كسيلة، فتنحى كسيلة عن طريقه ليكثر جمعه، فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبي محجن الثقفي:
كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا ** وأترك مشدوداً علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ** مصارع من دوني تصم المناديا

فبلغ عقبة ذلك فأطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة. فلم يفعل وقال: وأنا أيضاً اريد الشهادة. فكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم، فقتل المسلمون جميعهم لم يفلت منهم أحد، وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير، فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان. فعزم زهير بن قيس البلوي على القتال، فخالفه حنش الصنعاني وعاد إلى مصر، فتبعه أكثر الناس، فاضطر زهير إلى العود معهم، فسار إلى برقة وأقام بها.
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد إفريقية، وبها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان فاستعمل على إفريقية زهير بن قيس البلوي، وكان مقيماً ببرقة مرابطاً.

.ذكر ولاية زهير بن قيس إفريقية وقتله وقتل كسيلة:

لما ولي عبد الملك بن مروان ذرك عنده من بالقيروان من المسلمين وأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إلى إفريقية لاستنقاذهم، فكتب إلى زهير بن قيس البلوي بولاية إفريقية وجهز له جيشاً كثيراً، فسار سنة تسع وستين إلى إفريقية.
فبلغ خبره إلى كسيلة، فاحتفل وجمع وحشد البربر والروم وأحضر أشراف أصحابه وقال: قد رأيت أن أرحل إلى ممش فأنزلها فإن بالقيروان خلقاً كثيراً من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونخاف إن قاتلنا زهيراً أن يثب هؤلاء من ورائنا، فإذا نزلنا ممش أمناهم وقاتلنا زهيراً، فإن ظفرنا بهم تبعناهم إلى طرابلس وقطعنا أثرهم من إفريقية، وإن ظفروا بنا تعلقنا بالجبال ونجونا. فأجابوه إلى ذلك، ورحل إلى ممش، وبلغ ذلك زهيراً فلم يدخل القيروان بل أقام ظاهرها ثلاثة أيام حتى أراح واستراح، ورحل في طلب كسيلة، فلما قاربه نزل وعبى أصحابه وركب إليه، فالتقى العسكران، واشتد القتال، وكثر القتل في الفريقين، حتى أيس الناس من الحياة، فلم يزالوا كذلك أكثر النهار، ثم نصر الله المسلمين وانهزم كسيلة وأصحابه وقتل هو وجماعة من أعيان أصحابه بممش، وتبع المسلمون البربر والروم فقتلوا من أدركوا منهم فأكثروا، وفي هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، وعاد زهير إلى القيروان.
ثم إن زهيراً رأى بإفريقية ملكاً عظيماً فأبى أن يقيم وقال: إنما قدمت للجهاد فأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك.
وكان عابداً زاهداً، فترك بالقيروان عسكراً وهم آمنون لخلو البلاد من عدو أو ذي شوكة، ورحل في جمع كثير إلى مصر.
وكان قد بلغ الروم بالقسطنطينية مسير زهير من برقة إلى إفريقية لقتال كسيلة، فاغتنموا خلوها فخرجوا إليها في مراكب كثيرة وقوة قوية من جزيرة صقلية وأغاروا على برقة، فأصابوا منها سبياً كثيراً، وقتلوا ونهبوا، ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية إلى برقة، فأخبر الخبر، فأمر العسكر بالسرعة والجد في قتالهم، ورحل هو ومن معه، وكان الروم خلقاً كثيراً، فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع وباشر القتال واشتد الأمر وعظم الخطب وتكاثر الروم عليهم فقتلوا زهيراً وأصحابه ولم ينج منهم أحد، وعاد الروم بما غنمو إلى القسطنطينية.
ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل زهير عظم عليه واشتد ثم سير إلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني، وسنذكره سنة أربع وسبعين إن شاء الله.
وكان ينبغي أن نذكر ولاية زهير وقتله سنة تسع وستين، وإنما ذكرناه ههنا ليتصل خبر كسيلة ومقتله، فإن الحادثة واحدة وإذا تفرقت لم تعلم حقيقتها.